
مشهد من مسلسل «شخص آخر»
كنت فاتر الحماس في متابعة أعمال المخرج والسيناريست التركي بيركون أويا لدرجة أنني أجلت مشاهدة مسلسل «شخص آخر» من إنتاج عام الوباء 2020، لمدة خمس سنوات كاملة.
لكن هذا الفتور تحول لتميمة ندم ستلاحقني دوماً على كل هذا التأجيل، فصدمتي الاستثنائية من حِمْل الإبداع الذي حطه بيركون أويا في عمل درامي من ثمانِ حلقات عتيدةِ الأسى والفن لم تكن سهلة على نفسي أبداً.
معضلة اللوج لاين
بلغة صنعة كتابة السيناريو إن أردت أن تكتب لوج لاين لمسلسل «شخص آخر» فستصيبك الحيرة، هذا عمل درامي من الممكن أن يكتب له عشرات من نماذج اللوج لاين. لكنني اخترت هذا رغم ترددي في محاولة استحسان وصفاً يكثف مشاعري المتراكمة تجاه العمل:
«مريم، فتاة من الهامش، تثير زلزالًا نفسيًا في حياتها وحياة طبيبتها بمشفى حكومي، لتكتشف عمق الاضطرابات الاجتماعية والنفسية العالقة في تشابكات الجميع».

مشهد من المسلسل التركي «شخص آخر»
الكوادر التفاعلية، وكيف تختطفك الكاميرا لحالة شعورية استثنائية
مع السيناريو المحترف وكون، بيركون أويا هو المخرج أيضاً، فلقد استخدم أسلوب ثقيل وهو اتخاذ لقطات وكوادر تجعل من المشاهد متفاعل رغمًا عنه. عظم بشكل استثنائي ومتكرر الكوادر الواسعة، والواسعة جداً وفي داخلها تكوين لشخص واحد من الممثلين، مما عزز مشاعر الوحدة والعزلة التامة حتى في أكثر الأماكن ضجيجاً.
الكوادر التي أكدت الانكفاء على النفس والهروب للداخل لا تخطف العين فقط، بل تحملك حملاً لداخل المشهد وكأنك جزء من مشاعر الممثل، لأنه لم يعتمدها لبطل بعينه، لكنه وحد النمط للجميع. وفي ظني هذا ظل غير اعتيادي ومهنية ليست بالسهلة أن يثير كل كادر مشاعر عارمة بهذا الشكل.

مشهد من مسلسل «شخص آخر» للطبيبة النفسية بيري
بنوعية الكوادر تلك شارك بحميمية مع المشاهد وحدة الإمام في براح المسجد، عزلة مريم وعائلتها بين الجدران والطبيعة، فردانية بيري طبيبة مريم النفسية رغم اتساع ثقافتها وتجاربها، تِيه غولبين طبيبة الطبيبة النفسية بين لهجتين تركية وكردية، انفصال روحية نفسياً رغم حضور زوج مخلص وطفلين ومنزل هادئ.

مشهد الإمام في مسلسل «شخص آخر»
الكل حصل على حقه في كادر واسع وواسع جداً مرة أخرى في أماكن مختلفة وسط الطبيعة، بين الجدران، الشارع، العيادة الطبية، المنزل، في أضيق الأماكن كان اعتماد هذه النوعية من الكوادر بزوايا مختلفة تثبيت أصيل من بيركون أويا لمقولة أساسية «الكل وحيد» لتكتشف في النهاية أن في داخل كل شخصية «شخص آخر» وهو عنوان العمل.
وربما هو امتداد لشعور نفسي جمعي لدى أجيال من الأتراك، متراكمة بمشاعر الوحدة في انعكاسات اقتصادية تعزل قطاع عريض عن تطلعاته، وغيرها نفسية تتضارب فيها قيم التفاهم بين المحافظ والمنفتح وتداخل الهويات في العائلة الواحدة. حدد بيركون أويا كوادر العزلة بين الجدران والطبيعة وصخب المدينة، فاتحاً الطريق للاندماج مع كل شخصية بحرفية.

مشهد غوليين من المسلسل التركي «شخص آخر»
حكاية الأداء التمثيلي!
أتقن التركية بطلاقة وخضت ترحالاً في عشرات من الولايات شمالاً وجنوباً، وتابعت عدد لا بأس به من أعمال الدراما التركية، إلا أنني لم أجد حساً واقعياً حقيقياً كما وجدت في مسلسل «شخص آخر» من ناحية الأداء التمثيلي، ولهجة اللغة المنطوقة.
انتصار أويكو كارايل
درة الأداء التمثيلي في هذا العمل كان الدور الذي قامت به الممثلة التركية أويكو كارايل، فقد قامت بدور فتاة الهامش كما يقول الكتاب ويزيد، حتى تظن أن شخصية مريم هذه هي الأصل وأنه لا ثمه أويكو ولا يحزنون.
فمخارج الحروف القروية الأصيلة، تعابير الوجه العشوائية، مشية الهامش المستسلمة، لمعة العين للانتصارات الصغيرة، قامت أويكو كارايل بأدئها بشكل يتخطى البراعة والتقمص. فتجعلك تُشبه شخصية مريم بكثيرات، قد تكون التقيتهن بلا موعد أو سابق معرفه في باص، مترو، شارع جانبي، محل عمل حتى من دون حديث.
أنت تعرف هذا النمط من ديمومة الحياة في نطاق اجتماعي ما، وخرجت شخصية مريم بكل أعباء هذا النطاق، وملامحة التعبيرية في صورة أداء أويكو كارايل الذي يعتبر هو دور حياتها من ناحية فردانية الأداء.
مشهدين لمشاعر الصمت

مشهد من مسلسل «شخص آخر» للفنان أونر أركان
أما عن حكاية الدور الذي قام به الفنان التركي القدير أونر أركان صاحب شخصية «سليم» في مسلسل الحفرة الشهير، وقيامه بدور الشاب المصاب بالشلل الدماغي شقيق الطبيبة النفسية غولبين، كان لمسة مفاجأة، فلم يظهر سوى مشهدين، بلا حوار بالطبع.
في المشهدين صدر للمشاهد الحالة الخام لمريض الشلل الدماغي، من تشنج العضلات، لانقباضات وانبساطات الوجه، العنيفة المؤلمة، الارتعاشات اللاإرادية.
هكذا وبكل بساطة مشهدين فقط، صرخ بهم وتحدث وبكى بعضلات وجهه ولا شئ أخر، لنفهم محور أزمة عائلة الطبيبة غولبين، أيعالجون هذا الشاب بالأحجبة والتمائم وقوة الدين، أم بعلاج مبتكر يحتوي على مخدر الحشيش! وتفصيل الأداء التمثيلي يحتاج لتفصيل أكثر شرحاً لكافة الشخصيات التي أدت مستوى تنافسي.
أقطع على الريأكشن!
تقريباً هذه الجملة الأكثر تكرار التي رددتها في مشاهدتي للمسلسل في مشاهد غاية الحساسية لاثيما مشاهد توقع رد فعل معين، بكاء وغيرها. كانت تقنية استخدام القطع بالكاميرا والكوادر في الثمان حلقات مختلفة تماماً، فبالمخالفة لقطاع عريض من مدارس الإخراج التي تنتظر لحظة المشاعر العارمة والجياشة كي يقوم المخرج بالتقريب بكوادر «الكلوز» ليرتفع بالشعور العام للمشاهد مع الممثل.
صمم بيركون أويا، أن يصفعني صفعة تأسيسية أخرى في مثل هذه المشاهد. ففي مشهد الحلقة الأخيرة مثلا والعِتاب الصارخ الذي حدث بين ياسين وزوجته روحيه، واستجرار كل هزائمهم النفسية ولحظات حبهم، واستدعاء واقعة اغتصاب روحية وكيف أنه قبل بهذا بحب أصيل.
لم يقطع بيركون أويا كوادر كلوز مطلقاً لإظهار مشاعر ياسين ولا روحيه، ترك الغرفة تغلي بالغضب والذكريات والدموع، بصوت مسموع وبكادر جانبي عظيم لجلستهم على الأرض، مستدعياً واقعية شديدة في الكادر.

مشهد العتاب من مسلسل «شخص آخر»
هذا عتاب يحدث في كل بيت في الكون بنفس التأسيس، الدموع، الزاوية، الإضاءة، الصوت، الغضب، دمج المشهد بالواقع حتى تختلط على المشاهد المشاعر، وأنهى المشهد بكادر كلوز وحيد صادم لدموع ياسين وهو ينظر بشكل عشوائي الى المجهول لتعظيم مزيد من سردية الواقعية الصرف.
ففي الوقت الذي كنت أطالبه فيه بجملة «أقطع على الريأكشن» طوال المشهد، فاجأني بالكادر الأخير الذي لم يبق إلا ثوان على الشاشة، لينتزع مني مشاعر صدمة محيرة، لأدرك أن هذا النموذج من رؤية الكوادر الإخراجية هو هدفه تماماً – المفاجأة الشعورية – على ملامحي وكل مشاهد، وهو نموذج اعتاد تكراره في كثير من المشاهد المحفزة، التى تطلب فيها متابعة – ريأكشن – ما، لكنه ينتصر لك شعورياً بكادر آخر، يُشبع جوع مشاعرك للمتابعة والتداخل مع الإحساس والمشهد.
في النهاية بيركون أويا هو أب الجميع في حكاية كوادره الإنسانية، الكاميرا في يده عين لكل مشاهد كي ينغمس في قصة إنسانية بحميمية واضحة، لا يعرف المبالغات العاطفية التي يروج نثرها في الدراما المعتاده اليومية، ويلتزم بانسحاقه الشديد في قاع الواقع التركي مجتمعياً ونفسياً كي يخرجه لنا بهذه الطريقة المؤثرة، هو يعكس المجتمع التركي بكل تناقضاته ومآثره، في كوادر شخصيات، تترنح ببساطة على ضفة حكاية ما تعيش هوس الخرافة، تداخلات السياسة، الإيمان، الآسى، الانفتاح وكثير من حكايات الشوراع كأنه يروى قصة المكان نفسه مع حكايات الشخصيات، مع معضلات أخلاقية ونفسية مربكة.
مسلسل شخص أخر هو جلسة مصارحة نفسية، لشخصيات عادية جداً في مجتمع مليئ بالقصص، ويَفتح براح لأسئلة نفسيه لكل مشاهد عن ماهية الشخص الآخر بداخله بعد أن ينهى هذه الجرعة المكثفة درامياً.